الجمعة، 21 نوفمبر 2014

رحيل




اليومَ ترحلُ وكل يوم في رحيل
والغدٌ يغدو هائماً في برزخٍ لا يسير
والأمس ركاماً من الذكرى والأمل العليل
والعمر مرتهنٌ  في هواك
بيد أني ...لا أراك
وانت هاهنا
واقفٌ ترفلُ في أكفانك البيضا
ومضا" في ليل كثيف
ربيعاً متشحاً  ثوب الخريف
بين ذلي وكبريائي
بين سخطي وأشتياقي
بين عدمي ووجودك
بين أسرابِ وعودك
بين ظني وحدسي
طارقاً يطرق أبواب يومي
 بذكرى أمسي !


يادوحة البوح الوحيده
مالي أراني لا أراك
وقد كنت ملأً للعيون
اليوم ترحل فلا أراك
والقلب يُرديه الظنون   
أبصرُ البسماتِ خجلى فوق الشفاةِ الحزينه
فلقد شقينا بالرحيل
وغنمت أنت بالسكينه
يادرة خاطري ولذة ناظري
بصري سابحٌ في بهاك
وعين قلبي
يا صنو  روحي
تراك .

ما عدتُ أسأل أين أنتْ
وكيف كٌنا وكيف كٌنتْ
ماعادت تحملني أليك لهفات اللقاء
ما عدت أدري ما الرحيل وما البقاء!
تسائلني في خاطري من تكون؟
فتتناثر كلماتي في الوجود
ولا تعود !
أنت نبتاً يشق الأرض عُشباً من جديد 
أنت تكبيرة الأحرام في صبيحة يوم عيد
أنت الآمان في الشدائد
أنت الآذان في المساجد
أنت الكلام والآلام والخصام و الوئام
أنت البذور والجذور والثمار والعَمَار
أنت المعاني والأغاني
أنت الصلاة والصيام والزكاه
انت الحياه.





الأحد، 2 نوفمبر 2014

الشهر التاسع

أعرف أن العالم في قلبي   ..  مات
لكني حين يكف المذياع وتنغلق الحجرات
أنبش قلبي ، أخرج هذا الجسد الشمعي
وأسجيه فوق سرير الألام
أفتح فمه ، أسقيه نبيذ الرغبة
فلعل شعاعاً ينبض في الأطراف الباردة الصلبه
لكن تتفتت بشرته في كفي
لا يتبقى منه .. سوى : جمجمة .. وعظام

أمل دنقل ـــ يوميات كهل صغير السن
___________________________

(1)

الظلام يخيم على أرجاء الغرفه ، النوم عميق ولكنه مضطرب ، تطارده فيه أسراباً من خيالات موحشة وأطيافاً من أشباح وأناسي كثيرة ، وسحباً كثيفة من الغمام تحجب عنه رؤيتهم جميعاً بينما تقترب منه أصواتهم الجهورية وتتعاقب أنفاسه المتقطعه على نظم خطاهم الثابتة السريعة ، فلا يدري من أي صوب يتهدده هذا الخطر ومن هم هؤلاء الزاحفين خلفه قاصدين أذاه ، فتزداد خطواته سرعةً أكثر فأكثرفتنزلق قدماه في منخفض من باطن الأرض سحيق ، فيصيح (ألحقووووووووني) . يهب فجأة من فراشه فزعاً ، شاخصاً بصره في سقف الغرفه والعرق يتصبب من جبينه ورأسه ويسيل على مخدعه وقد ظفر به كله واستحال رطباً مبللا ..
كل شيء مازال في محله لم يتحرك ، أثاث الغرفة ، مصباح السقف ، الكتاب الذي كان يقرأ فيه ، نظاراته الطبية وهي تجلس فوق كتابه القرفصاء ، منبه الساعه الذي توقف عند الثالثة صباحاً وأبى أن يتتبع الزمن ، أمراته القابعة عن يساره الغارقة في سبات عميق ، كل شيء من حوله ينضح بالملل ، كل شيء من حوله أبى أن يحقق أمانيه .
استيقظ الفجر من سباته وخلع عنه رداء الظلمة والليل الطويل منذ ما يقرب من ساعتين وتدفقت آشعة الشمس الحارة تلهب سماء الدنيا من جديد ، يغط الشارع بأصوات الماره ، السيارات ، بائعي الفول ، صيحات طلاب المدرسة المجاورة لمسكنه ( تحيا جمهورية مصر العربيه ، تحيا جمهورية مصر العربيه ) ، الساعة بلغت السابعة والنصف اذاً و لم يعد لديه خيار بين أن ينام أو أن يبقى مستدفئاً في فراشه ، يحدث نفسه ( سوف أعاود النوم حين العودة من العمل )
ينهض من فراشه متمتماً بكلمات الأمل التي يطمئن بها نفسه في كل صباح ( اليوم سيكون أفضل من الأمس ، ربما استطيع أن أظفر بشيء من مترفات الحياة كفرصة عمل أفضل من تلك الرتيبة التي امتهنها ، جائزة من جوائز برامج المسابقات التلفزيونية التي اتابعها بأمل يائس ، رب طارق ببابي أتياً الي بخبر سعيد ، أو ربما تعلن الدولة عن تشكيل حكومة جديده تدرك عمق هذا النفق الذي حفرته سابقاتها بين دخلي ونفقاتي )، تظل تتتابع على عقله أفكاره وأمانيه البسيطة حتى يصل الى الحمام ، وهناك ، وأمام صنبور المياه الذي يتدفق منه الماء البارد ، يرفع رأسه فتنطبع في المرآة صورته ، وجهه المنتفخ وعينيه المقفلتين من أثر النوم المفزع ، وشعره الأشعث من جراء التدحرج على المخدع وعلى خديه تتناثر في غير انتظام شعيرات نابته ... ، ولكن دائماً تتبدد أمام الماء والمشط بشاعة الصورة ، الا صورته هو ، تنجلي أثار النوم منها وتبقى آثار اليأس والأحباط لا تفارقها ابدا .
( لا وقت للفطور ، سوف أقتات شيئاً في طريقي الى العمل ) ، يمد سبابته على مصباح الغرفه ويضغط بقوه ، وعندئذ ينطلق من أسفل لحاف يعج بالدفء والنوم والكسل صوت امرأته ، بعضاً من كلمات الضجر وكثيراً من السباب ، تأمره بأن يطفيء المصباح ويظلم الغرفه كي تعاود النوم الذي قطعه حماقته  ، فيقرر أن يرتدي ثيابه في الظلام .!!
(آه ... ما أقسى أن تقرر المضي في أداء فعل قد فرض عليك ) - هكذا حدثته نفسه حين انصاع الى رغبات امراته  ،
 ( ولكن ... لابأس ، لم يعد لدي وقت لشجار بالنهار ، الوقت يمر ، لقد فرغت من ارتداء ثيابي ،  علي أن أغادر الشقه الآن )
يتجه مسرعاً صوب الباب ، يفتحه ويندفع الى الخارج فتتعثر قدماه في صندوق القمامة ، فتنكب على الأرض ، وينكفأ هو من فوقها ،  فيعاود القيام  ، ثم يواصل اندفاعه على سلمات الدرج الضيق الطويل ، وتعيقه القطط العابثة بصناديق القمامه ، وقد افرغتها على الأرض لتقتات .
( لماذا لا يأت عامل القمامه في وقت مبكر من النهار ، فيرفع الأذى ويزيل العثرات ويخلصنا من تلك الرائحه ؟!! )
تنفرج زاوية الضوء شيئاً فشيئاً ، وينفتح على ضوء الشارع الكلي ، هاهوذا الضوء الذي منعته منه امرأته يداعب عيونه وتلهو في آشعته أهدابه  . يتجه صوب يمينه ويترجل تلك المسافه حتى الوصول الى (محطة الأوتوبيس ) .
الشارع يكتظ  بالمارة والبائعين الجوالين ، رؤوس هشه فوق أجساد هزيلة تطل من نوافذ حافلة النقل العام ( الأوتوبيس) ، لا مكان لموضع قدم بداخله ، ولكن لامفر ( لقد تأخرت كثيراً ولا يمكنني الأنتظار أكثر، سوف أضع احدى قدماي على أول سلمة وأقبض بكلتى يدي على أحد جانبي الباب الخلفي ،  الحافلة تسير ولا تتوقف في المكان المخصص لها ، لا سبيل اذاً غير القفز ، سأقفز قابضاً بقوه على الباب ...، الحمد لله ... لقد نجحت )
( آه ...ماأطول الطريق ، يدي تؤلمني وقدماي كذلك ، رائحة العرق الدافيء تنبعث من حولي وقد أجهدتني محاولات الخلاص منها مثلما أجهدتني تجارب الدخول الى موضع آمن بالداخل ، ولكن لا بأس ، ففي الداخل مقبرة بشرية حية ، ومرتع لمضايقات عده ) هنا فقط يحلو الخطر ، ويبدو السلم وكأنه الموقع الاستراتيجي الوحيد بالاوتوبيس -  تحدثه نفسه انه عما قليل ستنفرج الأزمة - .
يتوقف الاوتوبيس فجأة ، فيندفع الناس اندفاعاً شديداً ويجد نفسه وقد أنفلتت يداه وأنزلقت قدماه الثابته فيسقط اسفل اطارات الحافله العملاقه فيعاود الوقوف من جديد .
تلك المره سوف يواصل المسير على قدميه حتى الوصول الى مقر عمله ، لا يدري لماذا شعر فجأة بالمهانة تلك المره بالذات ؟! ، فكثيراً ما يسقط من على درجات السلم ، حدثته نفسه بأشياء من الماضي وهو ينظر الى الحاضر المؤلم ويتألم ، بكى ،،، وبلل الدمع المسام .
لا شيء في الشارع يحنو على الآخر ، لا شيء يطمئنه على نفسه في حاضره ومستقبله ، لا رحمة ، لا صدق ، لا عدل ، الكذب يهب من الصحف ويسيل مع لعاب الأفاقين ، الشحاذون يتكففون الماره والفقراء يتعففون ، والأغنياء يشمئزون من هؤلاء وهؤلاء ، المقاهي ملأى بالعاطلين ، السيارات لا تكف عن الصراخ والناس وكأن أصابهم الصمم فهم لا يسمعون ، فتلك سيارة يقودها طاعن في السن يرى نافذتها بالكاد ويداه لا تفارق آلة التنبيه ( آلة الأزعاج)  وشاب أرعن يقودها بكامل عنفوانه ، لا يعنيه عابر بالطريق ولا يردعه مخالفة القانون ، وأمرأة تبدو وكأنها أول تجربة لها في القيادة فهي لا تهتم باستخدام الكابح ولا تنتبه لمرور الناس والسيارات من حولها ، وهذا شرطي المرور ، المشهد كان أقوى من أن يدركه بأكمله ، وكلى الماره وقائدي المركبات يغفلون عنه ويتجاوزون أوامره والتي غالباً ماتصدر منه على استحياء وخوف ، وهكذا تفقد السلطة هيبتها .... وبالتدريج !!
الدكاكين تنبعج ببضاعتها خارج بواباتها ، تماماً كأمرأة في اخريات الحمل ، يتراجع لها المساكين السائرين على الأقدام فوق الرصيف وتتدافع خطواتهم المتعثرة أسفله ، بقايا ملصقات على جدران ابنية رمادية قديمة لدعايا انتخابيه مرت عليها سنوات عده، تداخل مهين بين صوت لمطرب شعبي يتغنى بكلمات رخيصة على أنغام موسيقى صاخبة مثيرة للأعصاب ودافعة للاْشمئزاز وصوت الشيخ مصطفى اسماعيل ينبعث من احدى دكاكين بيع الشرئط والكتب الدينية ينشد القرآن بصوت عذب .
كان الشارع في الصباح يشبه كثيراً حالة الفوضى التي يراها في بيته وفي عمله وفي نفسه ، وعلى طول الطريق وحتى الوصول الى البناية التي بها مقر عمله كان يتأمل مايجري بعينيه وأذنيه بينما راح قلبه يتمتم بدعاء الخلاص وكلمات الأمل في يوم بدا كسابقه ولكنه مازال يأمل أن يكون أشرق .


(2)

يقترب تدريجياً نحو مقر عمله .. يتزاحم الموظفون أمام البوابة الحديدية للشركة ، فيحاول النفاذ من بينهم متجهاً نحو المصعد حيث خليط من عملاء وموظفين وزائرين ، كلُُ ينتظر ويتأهب كي لا تفوته فرصه استخدام المصعد في تلك المره .
تنفتح أبوابه ويتزاحم الواقفون ، كلُ يدفع بنفسه اندفاعاً داخله ، فيمتلء فوق سعته المقدره للصعود ، ينغلق الباب ويصعد الى أعلى في بطء شديد ، بينما هو لا يزال واقفاً أمام مدخله في الطابق الأرضي ــ فلقد فقد فرصة الدخول فيه ــ  يحدث نفسه ( سوف أصعد الدرج ولا سبيل لي غير ذلك ، لا يمكنني الأنتظار حتى يعود المصعد فيمتلء من جديد وتخذلني حيلتي مرة أخرى )
مالبث يفكر في عدد سلمات الدرج وما سيلحق به من ألم خاصة أنه مريض بمرض عضال في قلبه حتى عدل عن فكرته تلك ، وبينما هو على هذا الحال ، اذ بالمصعد يقترب من الوصول الى محطته  بالطابق الأرضي ، يشحذ كل طاقته الكامنه بداخله استعداداً للأندفاع ، ينفتح الباب الاوتوماتيكي ويجد نفسه اخيراً ملقى بداخله ، واقفاً كعود ثقاب بين أعواد على وشك الأشتعال .
يقع المكتب في الطابق السابع للمبنى ، ذاك الطابق المزدحم دائماً بالمراجعين وأصحاب الشكاوى والحاجات ، والمكتب لسوء الحظ يقع في الناحية الجنوبيه للمبنى ، فهو مظلم لا تصالحه الشمس ، رطباً لا يعرف الدفء ، أخذ يسير ببطء شديد بينما راحت قدماه تثني احداهما الأخرى عن المسير ، وذاك لعلمه ما سيلاقيه بالداخل ، لا شيء يعدو فوق كماً هائلاً من الأوراق والدفاتر المتهالكة المهترئه ، وقلم جاف أوشك الحبر بداخله على النفاذ ومالايقل عن عشرة وجوه عابسه لا يلتفتون اليه ولا يعبئون ، ورئيس له في العمل ــ مغرورق في الجهالة ــ لا يعي من أمر دنياه سوى البحث عن أخبار مباريات كرة القدم في الصحف القومية والرياضيه ومجالسة موظفات الشركة اللاواتي يظنهن حسناوات ، ثم مضايقه مرؤسيه وتكليفهم بالمستحيل أداءه دائماً ، وهو شكل من أشكال الاستبداد التي طالما مارسها العربي الكبير تجاه العربي الصغير في بلادنا تلك التي تنازعتها أنظمة الأستبداد والطغيان على مر الزمان .
يفتح الباب في تثاقل وهو يلقي بتحية الصباح على زملاءه بالغرفه
ـــ السلام عليكم
ـــ وعليكم السلام
ولا يزيد فوق ذلك بكلمة ، ولا يزيدون .
ثم لا يلبث أن ينكفأ فوق مكتبه المثقل بالدفاتر والأوراق الصفراء الخشنه ، يحاول في جهد يائس أن يمحو كل ذرات التراب الدقيقة التي علتها وتخللتها وأستقرت بين طياتها ، هنالك يقترب منه ساعي المكتب حاملأ اليه كوباً من الشاي الغامق الذي تعكر لونه بفعل الملعقة الصغيرة القذره الحامله لأصباغ اللبن الأبيض وقد أنسكب قليل منه وسال على الجدار الخارجي للكوب مكوناً طبقة لاصقة مثيرة للأشمئزاز ، يرشف رشفة منه وهو يطالع أوراقه ودفاتره .
كان يومه طويل ،  ثقيل ، لا شي فيه يدفع الى الأجتهاد أو يحفز على العمل ، كان يعلم أنه لا طائل وراء مايؤديه كل يوم ، فانه اذا تغيب عن العمل  لكسل او لمرض او حتى بسبب الموت ، فأنه سوف يوكل ما خلفه من مهام الى زميل آخر سوف يتكلف مؤونة ازاحة الأتربه الدقيقة من فوق أوراقه التي تجمعت عليها أثناء غيابه أو مرضه أوفي تلك الحظات التي كان يوارى فيها جسده الثرى .
كان يؤثر قراءة الصحف اليومية جميعها كل صباح باهتمام شديد رغم تشابهها وتكرار أخبارها وكأنه يبحث  فيما بين سطورها على كلمة الخلاص ومفتاح الفرج ، بيد أن الصحافة كانت دائماً ما تخدله هي الأخرى  وتحمل اليه ما يسؤه
لم تشأ عناوين الأخبار في صبيحة ذلك اليوم أن تحمل اليه خبراً واحداً سعيداً ، بدءً من الصفحة الأولى وحتى الأخيره ، وكأنها تتآمر ضده مع القطط العابثة بصناديق القمامة وسلم الأوتوبيس وأصوات آلات الأزعاج للسيارات  وزملاءه الحاقدين ودفاتره المتربه الخشنه ، فهاك خبرٌ عن أنتشار فيروس خطير راح ضحيته العشرات من فقراء الوطن وآخر عن مسؤول كبير بالدوله أستغل مناصبه المتعدده في زيادة أرصدته بالبنوك بل ولم يكتف بذلك فراح يطلب الرشوة من كل من له حاجة لديه ، وخبر تصدر الصفحات الأولى من الصحف  يحكي عن تمكن أحد المتهمين في قضية فساد كبرى من الأنفلات من قبضه ( المنع من السفر) واجتيازه حدود البلاد حيث انتهى به المستقر النهائي والسعيد  في منزله بالريف الأنجليزي .، وخبر آخر أتت به صفحة الرياضه عن هزيمة الفريق القومي المصري لكرة القدم في أهم مبارياته الموهلة الى  تصفيات كأس العالم  مما بدا أثره مفزعاً على وجوه زملاءه وبالأخص رئيسه .
أما صفحة الوفيات ، فلم تشأ هي الأخرى أن تتركه وشأنه يعالج همومه  وأحزانه ، بل فاجأته وأزعجته وكأنها توميء له برأسها مفصحة له عن حقد دفين وترصد بالأحزان ، ففي أعلى الصفحة ومن الجهة اليمنى برواز أسود عريض حمل اليه بداخله  خبر وفاة صديق قديم له ، تقاسما سوياً في أيام الصبى ومطلع الشباب أحلامهما وآمالهما العريضه ، ثم تفرقا وقد صحبت الأيام صديقه في حلمها المخملي الناعم ، بينما قذفت به هو فوق اِشواك أرض جدباء في يوم عاصف طويل لم ينقض حتى الساعه .
طوى الصحيفة والقى بها في اسفل ادراج المكتب بينما علت وجه كآبة استجمعت فيها كل آلامه اليومية وانهزاماته المتتالية  وطفق يحدث نفسه في صوت خافت لم يسمعه سواه ( انا لله وانا اليه راجعون ، مات الرجل ، كنت أود لقاءه ولا ادري مالذي منعني  ، ماذا لو كنت فاجأته بزيارة خاطفه بعد طول انقطاع  ، ماكان ينبغي لنا أن نتباعد الى هذا الحد ، كيف يتأتى لي استرجاع ذكرياتنا بمفردي ، دونه ، أعلم  انني كنت اخشى ثرائه ونعومة حياته ، اخاف عليها واخاف مني ، وأشفق على طموحي الذي ذهب هباءً  ،وأحلامي التي تلاشت في الهواء،   كنت اخشى منه جفاء اللقاء و وأتحسب من شقاء التواصل ، الآن فقدته الى الأبد ، فقدته كله ، الوجه الصبوح ، خفة الظل ، نقطة الأنطلاق المشتركة بيننا ،  فقدته دون أن اخبره كم كنت اشتاق لرؤياه ولحديث الذكريات .)
ثم مد سبابته أسفل عينيه ومسح بظهرها دمعة فاجأته ، شعر بعدها بقسط ضئيل من الراحه والسكينه وأيقن أن بأمكانه أن يتابع يومه
أنقضت ساعات العمل الروتيني السخيف ، فنهض من مكانه ،  وسار منكسر القامه مطأطأ الهامه  في الردهة الطويلة الشبه مظلمه المنتهية بالمصعد البطيء المكتظ باللحم البشري والأنفاس المختلطه ، أنتظر طويلاً ، ولا شيء أتى  أو راح ، فقد كان المصعد معطلاً في احدى طوابق المبنى السفليه ، فقرر أن يترجل الدرج  وصولاً الى بوابة الخروج  .

(3)

الشارع مرة اخرى، صديق ممل حديثه ، سئيمة صحبته  ، متناقض في ذاته ، ورغم ما فيه من بواعث للألم  فيه من صدق الواقع  ، فانك اذا سرت فيه كفاك حديث الناس وقراءة الكتب ومشاهده التلفاز ، فهو يعبر بصورة صريحة عما آلت اليه أوضاع الناس وما انتهت اليه أفكارهم ، ويعبر كذلك عن سطوة الدولة في الوقت الذي تتجلى فيه وبوضوح انسحابها منه في مشهد بالغ في التعقيد ، مشاهد تضحكك ومشاهد تبكيك ، نسمات عذبة تحمل اليك عطر الياسمين ورائحة كريهة تحملها اليك بالوعات الصرف الصحي المهملة ، سيارت فارهة وأخرى قديمة بالية ، رجال تعلو وجوههم البهجه وآخرون تملكهم اليأس وأطاحت بنضرة وجوههم الكأبة
مضى سائراً على قدميه يتأمل آلام الناس وأوجاعهم ويرسي لأحوالهم القاسية ، وفجأة تذكر أن عليه أن يتأهب لأستقبال نفس جديدة سوف تحل عليه بعد أيام قلائل ، فلسوف تضع زوجته مولودها الجديد عما قريب ، وأن عليه أن يتحمل أوجاعه وأوجاعها مثلما ذاب دون وعي في آلام الناس وأوجاعهم ، وأوشك اللاشعور لديه – البالغ في الدقه والحساسية- أن يتحكم في وقائع حياته وتفاصيلها  ، حدث نفسه ( ماالضير فيما ألاقيه من آلآم او شقاء ، أن العالم كله من حولي يتألم ، نحن لم نخلق للرفاهيه أو التمتع بلذات الدنيا ثم نقضى، أن الألم مصير كوني وسنة الحياة ، ارادة الله التي تعلو فوق كل ارادة بشريه ، نعم ، اني أرى تلك المرأه البدينة تحمل طفلها بين ذراعيها وتتكأ على قدم واحده بينما تجرالأخرى المجهده من شقاء المسير ، العرق يتصبب من جبينها وعادم السيارات يسري مع أنفاسها ويصيبها بالصداع  ،العالم من حولها لا يعبأ بها وخشونه الحياه تجرح ما تبقى من أنوثتها المتناهيه في الخفاء، أراها و قد بدا الفقر جلياً في رقعات الثوب المهترأ البالي ، وشبح الأعياء الذي أنقض عليها وتملك حتى أطرافها ،  بيد أن ثمة أبتسامه عذبه يرسمها الحنين على وجه صغيرها قد تمحو معها آلام الأيام وتباريح الشجن .
وذاك صاحب الدكان ، تمر عليه الدقائق والساعات  دونما عابر يبتاعه شيء من دكانه ، وخزانته فارغه الا من قروش ضئيله ، ولكن الأمل في استكمال الرزق يثنيه عن اليأس ، والرضى بالواقع يدفع عنه وساوس الشيطان  .
وذاك ( سائق الأوتوبيس ) و رغم ما يلاقيه من معاناة في ساعة الظهيره و ازدحام الشارع وحرارة الطقس وضيق ذات اليد  الا ان شيئاً من التفائل يتوارى خلف صبره ، وحلم بالعوده الى احضان أطفاله في آخر الليل يذيب فيح لهيب اليوم الطويل . 
تلك هي الدنيا ، خيط من الألم وخيط من الأمل ، لحظه من سعاده ولمحة من كآبه ، صبح يفضي الي ليل ، وليلُ ينجلي بصباح . انه الصبر وليس سوى الصبر زاد ، أشعر انه عما قليل سوف تنفرج الأزمه ! )

ثمة أمل جديد اذاً سوف يطرأ على حياته ، شعاع من الأمل الرفيع بدا ممتد امامه اينما ولى، انه المولود الثاني ، ورغم ما  يتطلبه هذا المولود من دعم  قد يثقل كاهل ابوه فوق اثقاله الأخرى ،  الا انه - وعلى اية حال-  حدث يمثل بهجه ذات مذاق خاص .
غير مساره متجهاً الى احدى الدكاكين المتخصصه في بيع ملابس الأطفال حديثي الولاده ، وأخذ يتجول بين أروقتها الضيقه يختار ما يصلح للمولود الجديد ، عاد الى بيته محملاً بقدر لا بأس به من احتياجات الطفل الجديد ، وأخذ يختار لها موضعاً في خزانة الملابس . كان يفكر ملياً آنذاك كيف يمكنه التخلص من جملة آلامه من الآن فصاعداً ، بدت له حياته كلها وكأنها الشهر التاسع قبل الولاده  كان يقترب اكثر وأكثر من الأقتناع بأنه ( عما قليل ستنفرج الأزمه ) .
أستبدل بملابسه حلة النوم ، واستلقى على ظهره فوق سريره ، ولأول مره كان غير عابيء بما سيلاقيه في نومه  من أشباح تطارده لا يعرف لها مصدراً وتلك الأصوات المخيفه التي يسمعها كل ليله .
 .استسلم جسده المتعب للذه الراحه ، بينما أخذت بقعة الضوء تزداد أتساعاً وخيط الأمل يمتد اليه من الفراغ البعيد ، ترائت له الأشباح من جديد كخيوط سوداء تتلاشي في وهج الضوء المبهج،  لم تك تلك الأشباح وذاك الهزيع الذي كان يسمعه كل ليله الا نذير الموت يأتي اليه كل يوم  ،  أخذت أنفاسه المجهده تخفت قليلاً قليلاً و تتلاشى تدريجياً حتى أنحبست ، وأنفتحت له وقتذاك طاقه النوركاملة لتملأ أركان بصره .  فلقد أنطوت صفحة الألم من حياته وأنقضت معها حياته كلها ، في احدى أيام الشهر التاسع ـــ قبل الولاده ـــ
                                                                                           ( انتهت)

         


الجمعة، 22 أغسطس 2014

داعش واللي داعشينها



مشهد ليلي داخلي

أجتمع  في بلاط السلطان البغدادي أمير مؤمني آخر الزمان  ، مولانا سيد الفقهاء ، امام الأمه وشيخ  الأئمه الشيخ العلامه   ، الحبر البحر الفهامه  ، الناسك منذ البدايه ،  المتعبد ألى مالانهايه  .مولانا ( عز الدوله حماده ) مع البطل المغوار ، سيد الأخيار وقاهر الأشرار، ، فاصل الرؤوس عن الأجساد وعين السلطان بين العباد  ( توتو أمير الجيوش )
وكان أجتماعهم في حضرة السلطان البغدادي منذراً بأمر خطير ،  هكذا بدا للحراس ، وضاع في فهمه الناس
أذ لم يجتمع الثلاثة معاً  منذ فتح الله عليهم بالموصل،  وآلت أليهم الأمور ودانت لهم البحور والكفور
كان الحرملك يغط في سبات عميق ، والصبية اللاهون فوق قمم الجبال استراحوا هنالك . وكفت القدور وعقدت السيور وبدت الموصل كما لو كانت مدينة  للأشباح .فلا حرام فيها محرم ، ولا حلال فيها مباح !   
هنالك أمر السلطان حراسه بأغلاق الأبواب . ونادى في صحابته :- تشربوا ايه
عز الدوله حماده :- آخد شاي ليبتون فتله ، سكر زياده
توتو أمير الجيوش :- كانز راني خوخ لو سمحت
الحارس :- ومولاي السلطان بماذا يأمر
السلطان :- قهوه عالريحه يابني
أنطلق الحارس في ردهات القصر العامر آمراً الخدم بتحضير ما أمر به السلطان وضيوفه
أستوثق السلطان من احكام غلق جميع الأبواب المفضيه الى قاعة الأجتماع وتأكد بنفسه ان أحداً لن يسمعه ، حتى حراسه أنفسهم.
 ثم توجه الى رفاقه و صاح فيهم :- أنتوا بالشكل ده هتبوظوا كل اللي أتفقنا عليه مع الرجل الكبير .
توتو أمير الجيوش متسائلاً في دهشه :- خير يا كبير ، حصل أيه
السلطان :- مين اللي بعت الرجاله بتوعنا على مصر ، وايه اللي عرفهم طريق الدائري
عز الدوله حماده :- كنا بنروش يا كبير والله ، مانعرفش انها هتقلب بجد وبعدين ما تقلقش احنا مابعتناش حد ، دول دواعش( أبو تيج )، موجودين هناك أصلاً من زمان . أحنا بس نسقنا معاهم (  واتس أب)  وكده
السلطان :- ومين العيال بتوع كتيبة حلوان دول
توتو :- ولاحلوان ولا حاجه ، دول أصلاً من المرج وكانوا طالعين في مشوار كده وأتصوروا ، مفيش حاجه أبداً
السلطان :- حد فيهم أتمسك
توتو :- كلهم يا كبير .
السلطان :- أسمع منك له ، مصر دي مش وقتها خالص دلوقت ، ويوم ما ننوي،  أنا بنفسي اللي هشرف على العمليه وأقودها
الجميع في كلمه واحده :- سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين

مشهد ليلي خارجي

السلطان ممتطياً صهوة جواده يتفقد مزارعه في ظلمة الليل الدامس في صحبة القائد توتو أمير الجيوش  خلف أسوار قصره العامر ،بينما  شدواً من مذياع معلق في أذن الحصان  ينضح بأغنيه نانسي عجرم ( ياطبطب يا أدلع )
السلطان :- مين ياتوتو اللي اعطى الاوامر بقتل الصحفي الأمريكاني ده ؟
توتو أمير الجيوش :- أكيد مش انا يا مولاي ، ده تصرف فردي ، واللي عمل كده اكيد أكيد هيتاحسب
السلطان :- انا عايز رقبته قبل ما يطلع النهار، الرجل الكبير زعلان جداً وممكن يفض اللعبه كلها
توتو :- أعتبرها تحت رجلك من دلوقت يامولاي
السلطان :- أسمع يا توتو ، في ليلة أقل جمالاً من ليلتنا هذه ، هعلقك من ودانك اذا ما تعدلتش
توتو :- هتعدل يا مولاي ...هتعدل

مشهد نهاري صاخب
السلطان البغدادي متقدماً موكباً عظيماً من السيارات الجيب رباعية الدفع ، وقد أمتلأت الساحه بغبار كثيف وعادم السيارات حال دون رؤية الناس له وهو في مشهده المهيب هذا   ، بينما تراص على جانبي الطريق جموع شعبه وجنوده هاتفين في صوت واحد  :- صاحبتك السلامه يا أمير المؤمنين
كان الدليل الذي سيقودهم الى وجهتهم رجلاً نحيفاً قصير القامه معصوب العينين ومسلط علي جمجمته فوهة مدفع في لحظة تأهب طوال زمن الرحله  جاهز لقذف الدانه منه حالما غدر بهم أو نجح في مهمته المنوط  بها ( أيهما أقرب )  !!

في مصر
بعد قرابة شهر من الخروج من أرض الموصل تم العثور على جثة  البغدادي ملقاة خلف مصنع الكراسي بينما ألقي القبض على توتو امير الجيوش وعز الدوله حماده مختبآن في شقة مفروشه بمدينة نصر  
وكان الخبر الذي تصدر عناوين الصحف في مصر والعالم غداة هذا اليوم 

"الرئيس الأمريكي باراك أوباما يثمن مجهودات الحكومه المصريه في القضاء على زعيم تنظيم داعش !! "

الأحد، 13 أبريل 2014

صباح الخير


صباح النسر بيرفرف جوه أعلام مصر
صباح النصر
صباح اللمه على طبق الفول
صباح يفتح كل باب مقفول
صباح الشاي كشري في كوباية أزاز
صباح الكارو والأنابيب وعربيت الجاز
صباح الرقية والبركات
صباح الطحن والأزمات
صباح المستشفى و المرضى
صباح الفوضى .
صباح اللت والعجن
والشمس اللي مابتدخل سجن
صباح الهري والتنطيط
صباح الري بالتنقيط
في بلد النيل
صباح البق اللي ماشربتو
عشان بورتو
صباح القرش اللي متشال
عشان لعيال
صباح النور اللي مابينورش
في بلد السد
والراتب اللي مابيسترش
من السبت ليوم الحد
صباحك زحمة في المترو
بناس كتروا
وناس محشوره في الأوتوبيس
عشان ناس تانيه تنام وتهيص
صباح السكوت اللي معبي كلام
صباح الكتمه اللي جايبه لي صداع و زكام
صباح الزحمة في رمسيس
صباح الطلبه والكراريس
صباح المرار طافح
مايعرف بكره من امبارح
صباح كلمة الحق اللي واقفه في حلق الزور
تنطلق ، تجرح ، تهد السور
صباحك قنبله موقوته
معلقه في التوته
صباحك طلقة مجهوله
طلقتها أمنا الغوله
صباح الضحكه تملى وش مافيه سنان
لكن أنسان
صباح تجاعيد بتحكي شقى لسنين
ونظره طيبه تضحكلك ملانه حنين
صباحك فل ..رغم الكل
ورغم القسوه والجبروت
وساعة الغُلب اللي واقفة ..ومابتفوت
في ذرة أمل جايه في حضن الشمس
رافضه تموت .

الثلاثاء، 11 مارس 2014

الغربه مره


أوجه الشبه بيننا كبيره ، فكلانا ترك هناك ... وبقي هنا ! ، كان يبحث وحده في أفق بعيد عن اللانهايه .. عن عالم أرحب ! وكنت وحدي كذلك في أفقه شبيه ، أبحث مثله عن هذا العالم الذي لا أعرفه ... لا أدري من منا وصل الى منتهاه .. ؟ هو .. لأنه مات ؟! أم أنا لأنني مازالت أبحث عن اللانهايه حتى صار كل معلوم لدي مجهول .. ومازلت هنا ... ولا يزال الآخرون هناك .!
استوقفني في المرة الأخيره التي جمعت بيننا .. وكعادته وهو يحدثني .. مطرق الوجه .. شارد النظرات في خجل .. سألني أن أمنحه أجازة فالأيام الصعيبة تمر في بطء وملل ولقد اشتاق لرؤية أطفاله وزوجته . في كل مره يقوم فيها بالأتصال بهم لا يستطيع تمالك مشاعره ، فتفيض عيناه من الشوق اليهم ويداري عبراته بين شهيق حارق وزفير جارح ليسألهم بعدها عن أحوال الطقس في مصر وعن أمه المريضه وعن أحوال أخته الصغيرة التي تكفل بها منذ مات الأب حتى تزوجت أخيراً وأطمئن عليها ... يريد دائماً أن يظل في أعينهم الزوج والأب والأخ الصلب الذي يتحمل آلام الغربه من أجلهم ولا يعبأ كثيراً بما يلاقيه من متاعب فيها . فلا أحد يعلم كيف تمر الأيام .. وكيف تنقضي الساعات الطوال في العمل الشاق وفي هذا المناخ الموحش ، لا أحد يعلم كيف يعالج أوجاع قلبه وحده دونما بشري يربت على كتفه أو يقضي له حاجه ، لا أحد يعلم كم هي مريرة تلك اللحظات التي يقضيها هنا .. وحده .. بينما كل حبيب له ..... هناك !
ظللت أستمع اليه وهو يحدثني مختبئاً خلف عينيه ، يحدثني لأول مره في تفاصيل دقيقه عما يحدث هناك .. ( لا استطيع أن أبقى طويلاً هنا يا باشمهندس ، الأيام تمر ببطء وملل ، كل شيء هنا رتيب وسخيف بينما الحياة هناك أسرع والأحداث تتسارع ..أبنائي يكبرون دون أب يعيش معهم ، وأمي تفتقدني في أيامها الأخيرة تلك ، وزوجتي تعيش كالأرملة .. الأصدقاء الحقيقيون هناك .. المخلصون يتلاشون من حولنا ... لا احد منهم هنا ، لا أحد يعنيه من أنا .. أناعامل بناء وكفى ، ثماني واربعون ساعه بالاسبوع ، أنا مجرد بطاقة عمل يوميه في تلك الشركة تندس بين البطاقات  و ورقة مطبوعة في جواز سفري تحدد اقامتي ، تحدد بقائي وتحدد نهايتي ،  أنا هنا لاشيء ، بينما كنت هناك ..كل شيء! ، كنت الأب والأبن والزوج وكنت الصديق والرفيق وكنت فلاحاً حيناً وعاملأ حيناً ، انا هناك صاحب الأرض ومالك للوطن .. لا طاقة لدي في الاستمرار ، أريد أن أهنأ قليلاً بأيام لي هناك ... بينهم ... أرجوك أمنحني أجازه )
كانت رغبته ملحة في أن يترك العمل ويسافر ... لم أستطع أن أقف حائلاً دون تحقيق هذه الرغبه الجارفه ، وافقت ، ومنحته الأجازه ، رغم شكي في انه ربما لن يعود ..، كان الشوق للعوده يحرق كبده ويحرق كذلك كل مالديه هنا ..، ثم بدء يستعد للرحيل وكنت ألمحه بعد ذلك أنشط في عمله ، وأكثر دؤبة ، وأوسع صدراً في مواجهة الازمات التي يعبر بها ، كنت المحه يراها هينة ..، ضئيلة ، ففرحة العوده واللقاء بعد طول الفراق تتملك كل جوانبه والطريق الى هناك أصبح على مد ذراع ليس أكثر !!
كنت أفكر دائماً -ومازلت – فيما يقوله ، فما أشبه المغتربين حالاً !! ، كيف يكون المال مكافئاً للأهل والأحباب والذكريات ونقطة البدايه ومحل النهايه ؟ ، كيف يكافيء المادي المعنوي؟ !! وكيف يكون العيش هنا أهناً من هناك ، لم أجد مبرراً لنفسي وله ، ولم أدرك من منا تخلى عن الآخر  نحن الذين تخلينا عن أوطاننا ، أم الوطن هو الذي فعل ؟!
تسلم راتبه الشهري ومنحة الأجازة وذهب بهما الى السوق .. أشترى كل ماكان يفكر فيه طيلة سنوات مضت كان يحلم فيها بالعوده محملاً بالهدايا ، أشترى ملابس لأطفاله وألعاباً كثيرة وقطعة من القماش القطيفة الأسود لأمه وأغطية رأس مختلفة الألوان ، ولزوجته أشترى ملابس للنوم من الحرير الصناعي وكذا ملابس للخروج وعلبة كبيرة من مساحيق الوجه متنوعة الألوان ، وأشترى كذلك لأخته حقيبة كبيره وجلباب ولأطفالها الألعاب ولزوجها ساعه يد وقميص ولأصدقاءه عطور وقمصان . جلب من السوق كل ما يصلح لهم ونسي أن يشتري لنفسه شيئاً .
عاد من السوق محملاً بتلك الأشياء وقضى ليلته يرتب حقيبته ومن فرط سعادته بالعوده ظل يقظاً حتى مطلع الصبح ، ثم أتى الى موقعه في الصباح وشرع في ممارسة عمله في آخر يوم له قبل سفره وظل يعمل بنشاط حتى انتهى اليوم وبينما كان منشغلاً بفك احدى السقالات المعدنيه على ارتفاع تعدى العشرين متراً أختل توازنه وأختلت كل الموازيين فسقط من عل ، وسقط معه كل شيء .
بقيت طيلة يومين مابين مخفر الشرطة وغرفة العنايه الفائقه بالمشفى حتى لفظ أنفاسه ، قمنا بتغسيله ثم صلينا عليه الجنازه وودعناه في صحبة رفيق له الى المطار ، حيث سيستقبله الأهل الذين عاش من أجلهم مغترباً ومات شوقاً لهم في غربته ، كان الوطن وقتذاك فاتح ذراعيه لاستقباله. وكانت بوابات المطار تودع شخصاً آخر على نفس الطائرة لنفس الرحله وكانت البنوك تستعد لاستقبال التحويلات الجديده وكانت رفاته مسجاة في أرض الوطن تنعم بدفء الموت بعدما لفحها زمهرير الحياه .!!


الخميس، 27 فبراير 2014

الى ربي - دون وساطه -


أفتح كتاب وأقفل كتاب وادور عاللي بدع السبب 
ألقى براحك ملء الوجود،
وألقى في قلب القلب دوود 
يخرج وقت ما الروح تفوت ..
عند اللي خلق الوجود ويا العدم 
ألقى الأجابه عالأسئله بالمسطره 
من بين كلام كتابك تتقرا
لمن يرى !

ياحكمتك 
يارب باعث كل حي من نفختك
يارب يا خالق الوجود والعدم 
احنا العدم !
احنا اللي فكينا اللجام 
وحملنا تبعات الكلام
احنا اللي من عليها فان 
احنا الآنام

وأتذكرك
يارب من بعد طول البعاد 
من بعد طول الجحود 
ألقى العدم يرجع وجود 
وتدب في قلبي الحياه من جديد 
والنبض ينفض في الوريد 
وتدوب كل الأسئله والمسأله في لحظة خشوع 
يامحلا ذلي والخضوع 
في حضرتك
في قدرتك 
في قوتك 
يارب ياخالق الحياه والموت 
ايه يعني اموت ! 
مادام هتختفي بينا الحواجز والسدود
أيه يعني ألاقي او ما ألتقيش
مادام هعيش 
في رحمتك.
ايه يعني أتوه في عالم غريب ! 
ما أنت القريب .
وأزاي يعني قلبي يتوجع !
وأنت الحبيب 

أرضني يامولاي بخدمتك 
وأجعل عطائي كله ...لك 
أنت السلام 
ومنك السلام 
تباركت ياذا الجلال والأكرام 

الثلاثاء، 25 فبراير 2014

كرسي خشب



"أنت فاكرني كرسي في البيت مابيحسش..." ، كانت تلك هي عبارة الضجر التي أنفجرت بها تلك السيده التي أهملها زوجها وأساء معاملتها ، حتى أنه كاد أن يهجرها ويعاملها كعدم لا وجود له في الحياه 
نطقت بها بصوت عال مرتفع دون ادراك منها ان هناك وعلى بعد امتار قليله منها يقبع في صمت وهدوء ساكن كرسي سمع عن كثب عبارتها تلك ...
هذا المخلوق الجمادي النابض بالحركه الصامته والمشاعر التي عجز عن فهمها الأنسان ، سمع هذه الأهانه الصريحه فطفق يحدث نفسه في ألم بليغ وحسرة عميقه قائلاً : اييه ايها الأنسان ، اني والله لأسمع ما تقول واشعر بما لم تشعر أنت به وأتحمل فوق ما تحتمله أنت من العذاب ، أني لأتذكر تلك اللحظات التي وخزت فيها تلك المسامير جوانبي واخترقتها كي يكتمل هذا البناء الذي تلتمس فيه راحتك ويستريح عليه جسدك لأضمك بين ذراعي وأحملك فوق مقعدي وتسند رأسك على ظهري وأظل أنتقل من مكان الى مكان لأحقق لك رفاهيتك وأباع وأشترى دون تذمر مني ،أني قد شهدت تكويني وخلقي ورأيت كيف يتم بنائي ، لقد تألمت كثيراً وتحملت أوزاناً ثقالاً لا تستطيع أنت تحملها ، أنك لا تعلم ماذا يجري هنا في احشائي وما تنضوي عليه خلايا أقدامي الخشبيه تلك ، تظنها جماد بلا روح وبلا مشاعر ونسيت أن هذه الأخشاب التي تكون منها جسدي كانت يوماً جذوعاً في شجر ينبض بالحياه وأن هذا التكوين العبقري هو أنا ... أنا الذي لا تعرفه وتظنه لا حس عنده ولا يسمع ما تقول ، أنك تسميني جماداً صلباً لا يعقل ولا يحس ، مثلي مثل الحجارة ، فكلانا جماد ، وانك تعلم أن من الحجاره لما يتفجر منه الأنهار وأن منه لما يهبط من خشية الله ، أليس هذا الحجر هو الذي ظلمتموه وجعلتم منه أوثاناً فعبدها الناس من دون الله ، وهو نفسه الذي بنيتم به مساجدكم وكنائسكم ومدارسكم وبيوتكم ليظل صلواتكم ويضم دروسكم ويأويكم من العراء .
أنا يا سيدي الأنسان مثل هذا الحجر ، بل أنا أفضل من الحجر ، أنظر كيف تطلقون على المنصب الرفيع والجاه المنيع اسم " الكرسي " فتقولون أن فلاناً أرتقى كرسي الوزاره أو أن ملكاً عظيماً جلس على كرسي العرش وتحتفلون كل عام بيوم جلوسه على الكرسي ، أنكم جعلتم من الكرسي علامة دالة على الأرتقاء الى الأعلى وبلوغ الغاية والرفعه ، ونحن بحق نستحق ذلك وأكثر ، أفلم يسمي الله تعالى في محكم تنزيله أيه عظمى بأسم آية الكرسي ، وقال فيها ( وسع كرسية السموآت والأرض ) فكان عرش الرحمن هو ذلك الكرسي العظيم 
يا صديقي الأنسان اننا شركاء معك في هذه الحياه مادمنا وجدنا فيها معا"، فأجلس مطمئناً وأسترح وأعلم أننا وجدنا في هذه الحياه لراحتك وهذا الوجود يستدعي منك أن تعيه وتفهمه وأن تعلم أننا وجميع ما كان من الموجودات التي تحوطك نراك ونسمعك ونشعر بك ولكنك لا تفقه لغتنا ولا تدري أين تكمن أسرارنا وأين تخفق أرواحنا لأنك تظن أننا وطبقاً لتصنيفك من الجمادات . نحن فقط لا نستطيع أن نعبر عن أحزاننا ولا أفراحنا بيد أننا لدينا عالمنا الخاص ، عالمنا الذي نتكلم فيه ونشتكي، ونحن حينما نستقر على الأرض ونتراص في ترتيب محكم بين ألأثاث في تناغم وتوافق مرضي نسعد بذلك ونتحاور ونحكي ولا نسأم الحديث كما أننا نشهد سمركم وأفراحكم وأحزانكم ونسمع الحكايا منكم ونطلع على أسراركم ولو أنطقنا الله لفضحناكم يا معشر بني آدم ولكننا نحفظ الأسرار وهذا هو قدرنا معكم ... الصمت الى الأبد ! ، ولكن هل تعلم متى تنتهي أعمارنا ..؟ هل تعلم الى أين نحن ذاهبون ؟ أني أدعوك للجلوس ... لنتحاور !