الثلاثاء، 11 مارس 2014

الغربه مره


أوجه الشبه بيننا كبيره ، فكلانا ترك هناك ... وبقي هنا ! ، كان يبحث وحده في أفق بعيد عن اللانهايه .. عن عالم أرحب ! وكنت وحدي كذلك في أفقه شبيه ، أبحث مثله عن هذا العالم الذي لا أعرفه ... لا أدري من منا وصل الى منتهاه .. ؟ هو .. لأنه مات ؟! أم أنا لأنني مازالت أبحث عن اللانهايه حتى صار كل معلوم لدي مجهول .. ومازلت هنا ... ولا يزال الآخرون هناك .!
استوقفني في المرة الأخيره التي جمعت بيننا .. وكعادته وهو يحدثني .. مطرق الوجه .. شارد النظرات في خجل .. سألني أن أمنحه أجازة فالأيام الصعيبة تمر في بطء وملل ولقد اشتاق لرؤية أطفاله وزوجته . في كل مره يقوم فيها بالأتصال بهم لا يستطيع تمالك مشاعره ، فتفيض عيناه من الشوق اليهم ويداري عبراته بين شهيق حارق وزفير جارح ليسألهم بعدها عن أحوال الطقس في مصر وعن أمه المريضه وعن أحوال أخته الصغيرة التي تكفل بها منذ مات الأب حتى تزوجت أخيراً وأطمئن عليها ... يريد دائماً أن يظل في أعينهم الزوج والأب والأخ الصلب الذي يتحمل آلام الغربه من أجلهم ولا يعبأ كثيراً بما يلاقيه من متاعب فيها . فلا أحد يعلم كيف تمر الأيام .. وكيف تنقضي الساعات الطوال في العمل الشاق وفي هذا المناخ الموحش ، لا أحد يعلم كيف يعالج أوجاع قلبه وحده دونما بشري يربت على كتفه أو يقضي له حاجه ، لا أحد يعلم كم هي مريرة تلك اللحظات التي يقضيها هنا .. وحده .. بينما كل حبيب له ..... هناك !
ظللت أستمع اليه وهو يحدثني مختبئاً خلف عينيه ، يحدثني لأول مره في تفاصيل دقيقه عما يحدث هناك .. ( لا استطيع أن أبقى طويلاً هنا يا باشمهندس ، الأيام تمر ببطء وملل ، كل شيء هنا رتيب وسخيف بينما الحياة هناك أسرع والأحداث تتسارع ..أبنائي يكبرون دون أب يعيش معهم ، وأمي تفتقدني في أيامها الأخيرة تلك ، وزوجتي تعيش كالأرملة .. الأصدقاء الحقيقيون هناك .. المخلصون يتلاشون من حولنا ... لا احد منهم هنا ، لا أحد يعنيه من أنا .. أناعامل بناء وكفى ، ثماني واربعون ساعه بالاسبوع ، أنا مجرد بطاقة عمل يوميه في تلك الشركة تندس بين البطاقات  و ورقة مطبوعة في جواز سفري تحدد اقامتي ، تحدد بقائي وتحدد نهايتي ،  أنا هنا لاشيء ، بينما كنت هناك ..كل شيء! ، كنت الأب والأبن والزوج وكنت الصديق والرفيق وكنت فلاحاً حيناً وعاملأ حيناً ، انا هناك صاحب الأرض ومالك للوطن .. لا طاقة لدي في الاستمرار ، أريد أن أهنأ قليلاً بأيام لي هناك ... بينهم ... أرجوك أمنحني أجازه )
كانت رغبته ملحة في أن يترك العمل ويسافر ... لم أستطع أن أقف حائلاً دون تحقيق هذه الرغبه الجارفه ، وافقت ، ومنحته الأجازه ، رغم شكي في انه ربما لن يعود ..، كان الشوق للعوده يحرق كبده ويحرق كذلك كل مالديه هنا ..، ثم بدء يستعد للرحيل وكنت ألمحه بعد ذلك أنشط في عمله ، وأكثر دؤبة ، وأوسع صدراً في مواجهة الازمات التي يعبر بها ، كنت المحه يراها هينة ..، ضئيلة ، ففرحة العوده واللقاء بعد طول الفراق تتملك كل جوانبه والطريق الى هناك أصبح على مد ذراع ليس أكثر !!
كنت أفكر دائماً -ومازلت – فيما يقوله ، فما أشبه المغتربين حالاً !! ، كيف يكون المال مكافئاً للأهل والأحباب والذكريات ونقطة البدايه ومحل النهايه ؟ ، كيف يكافيء المادي المعنوي؟ !! وكيف يكون العيش هنا أهناً من هناك ، لم أجد مبرراً لنفسي وله ، ولم أدرك من منا تخلى عن الآخر  نحن الذين تخلينا عن أوطاننا ، أم الوطن هو الذي فعل ؟!
تسلم راتبه الشهري ومنحة الأجازة وذهب بهما الى السوق .. أشترى كل ماكان يفكر فيه طيلة سنوات مضت كان يحلم فيها بالعوده محملاً بالهدايا ، أشترى ملابس لأطفاله وألعاباً كثيرة وقطعة من القماش القطيفة الأسود لأمه وأغطية رأس مختلفة الألوان ، ولزوجته أشترى ملابس للنوم من الحرير الصناعي وكذا ملابس للخروج وعلبة كبيرة من مساحيق الوجه متنوعة الألوان ، وأشترى كذلك لأخته حقيبة كبيره وجلباب ولأطفالها الألعاب ولزوجها ساعه يد وقميص ولأصدقاءه عطور وقمصان . جلب من السوق كل ما يصلح لهم ونسي أن يشتري لنفسه شيئاً .
عاد من السوق محملاً بتلك الأشياء وقضى ليلته يرتب حقيبته ومن فرط سعادته بالعوده ظل يقظاً حتى مطلع الصبح ، ثم أتى الى موقعه في الصباح وشرع في ممارسة عمله في آخر يوم له قبل سفره وظل يعمل بنشاط حتى انتهى اليوم وبينما كان منشغلاً بفك احدى السقالات المعدنيه على ارتفاع تعدى العشرين متراً أختل توازنه وأختلت كل الموازيين فسقط من عل ، وسقط معه كل شيء .
بقيت طيلة يومين مابين مخفر الشرطة وغرفة العنايه الفائقه بالمشفى حتى لفظ أنفاسه ، قمنا بتغسيله ثم صلينا عليه الجنازه وودعناه في صحبة رفيق له الى المطار ، حيث سيستقبله الأهل الذين عاش من أجلهم مغترباً ومات شوقاً لهم في غربته ، كان الوطن وقتذاك فاتح ذراعيه لاستقباله. وكانت بوابات المطار تودع شخصاً آخر على نفس الطائرة لنفس الرحله وكانت البنوك تستعد لاستقبال التحويلات الجديده وكانت رفاته مسجاة في أرض الوطن تنعم بدفء الموت بعدما لفحها زمهرير الحياه .!!